فيتنام وفلسطين- دروس في النصر، الهزيمة، والأمة الغائبة

كنتُ أتأمل صورًا قديمة، تعود إلى خمسين عامًا مضت، توثق لحظات هروب الأمريكيين وحلفائهم من سايغون، المدينة التي تُعرف اليوم بـ "مدينة هو تشي منه"، بينما كانت قوات الفييت كونغ وجيش الشمال الفيتنامي يطبقون عليها. تأملت كل صورة بعمق، وكأنها آلة زمن نقلتني إلى تلك الحقبة. في ذلك الوقت، كنت شابًا يتهيأ لعرس بعد شهرين، وكان قلبي مفعمًا بحب خطيبتي. استشعرت فرحًا غامرًا مع كل صورة، وكأنني أحد الذين عانوا ويلات الاحتلال في سايغون، تمامًا كشوقي للقاء عروسي.
ما السر في ابتهاجي بذكرى انتصار الفيتناميين قبل نصف قرن؟ هل لأنني شيخ طاعن في السن، أستعد لدخول عامي السادس والسبعين، والذي يوازي عمر النكبة، وأتوق إلى يوم ألتقط فيه صورًا مماثلة في القدس، أو حيفا، أو اللد، عندما يندحر الاحتلال وأعوانه، أو أنال شرف الشهادة؟ أم أنني أهرب من واقعي المجهد إلى أحلام قديمة تسكن روحي منذ زمن بعيد، وترفض التلاشي؟
بدأت مسيرتي المهنية في الصحافة في الكويت بعد انتصار فيتنام بفترة قصيرة، بعدما وضعت الحرب أوزارها. كان الفيتناميون يعملون على تضميد جراحهم واستخلاص العبر من تجربتهم بنشوة النصر، رغم أن قائدهم الملهم "هو تشي منه" كان قد فارق الحياة قبل ست سنوات ونصف، في الثاني من سبتمبر عام 1969. في يوم النصر الفيتنامي، تمنيت لو أن "هو تشي منه"، الذي ألحق الهزيمة بفرنسا وأمريكا، كان لا يزال بيننا! أما جنراله العبقري "فو نغوين جياب"، فقد احتفل بالنصر مرتين: الأولى عندما قهر الفرنسيين في معركة ديان بيان فو عام 1954، وحافظ على حرية الشمال الفيتنامي، والثانية بعد 21 عامًا، عندما أذاق الأمريكيين مرارة الهزيمة.
فرحتي بانتصار فيتنام هي فرحة بانتصار المقهور على القاهر، والإنسان على قوى الشر. إنه ابتهاج بانتصار الحق على الزيف، وانتصار من يعشق وطنه على الخونة والمتخاذلين. لا تربطني بفيتنام أي روابط سوى الإنسانية، وهذا يكفي لكي أفرح لكل عربي يتوق إلى نصر طال انتظاره.
لكن، ما العوامل التي أدت إلى انتصار الفيتناميين؟ ولماذا لم يحقق العرب نصرًا مماثلًا منذ أن تكللت ثورة الجزائر بالنجاح ضد فرنسا بعد 130 عامًا من الاستعمار الاستيطاني البغيض؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نجيب عليه بجرأة وصدق، مهما كانت التحديات والمخاوف من ردود الفعل.
لقد خاض الفيتناميون معركةً شرسة، تجسدت فيها هوية أمة مؤمنة بذاتها، فانتصروا. قد يعترض البعض قائلين بأن الاتحاد السوفياتي والصين ساندوهُم بالدعم العسكري والاستخباراتي، وهذا صحيح. ولكن المعارك الضارية في الأدغال والغابات والأنفاق والجبال خاضها الفيتناميون بأنفسهم، وقدموا تضحيات جسيمة بلغت ثلاثة ملايين شهيد، لكنهم لم يستسلموا ولم يضعفوا. صحيح أيضًا أن بعض الجنوبيين تعاونوا مع الاحتلال في التنسيق الأمني والقتال، لكن قادة النضال لم تغرهم المناصب الزائفة، ولم يفضلوا الفنادق الفاخرة على الخنادق، ولم يسحرهم بريق الاحتلال الأمريكي في سايغون، ولم يقبلوا بأن يتم اختزال الوطن والأمة الفيتنامية في قصر فخم تحت أعين الاحتلال.
رحل "هو تشي منه" قبل النصر بست سنوات ونصف، وغابت صوره عن الشوارع، لكن إرثه العظيم ظل راسخًا في القلوب والعقول، لأنه لم يحِد عن مبادئه النضالية، ولم يرضَ إلا بفيتنام موحدة، ولم يكتفِ بجزء منها تحت سلطة الاحتلال.
صبر الفيتناميون على أهوال الحرب، وتحملوا القصف الجوي العنيف وقنابل النابالم الحارقة، وألحقوا بالعدو خسائر متزايدة، مما أجبر صناع القرار في واشنطن على الاعتراف باستحالة تحقيق النصر. وخرج مئات الآلاف من الأمريكيين إلى الشوارع مطالبين بإنهاء الحرب.
اندفع جيش الشمال وثوار الفييتكونغ نحو سايغون، وفرّ من تبقى من الأمريكيين، بالإضافة إلى العديد ممن تعاونوا مع الاحتلال وتخلوا عن وطنهم وأمتهم.
لقد انتصر الفيتناميون، وكان نصرهم بمثابة انتصار لمحيطهم الإقليمي والحضاري الذي لم يتخل عنهم، وقدمت دول مثل لاوس وكمبوديا تضحيات كبيرة لضمان استمرار الإمدادات. ونهضتهم اليوم هي نهضة للجميع. تخيلوا كيف كان الوضع سيبدو لو أن "هو تشي منه" رضي بجزء من الشمال، وبقي الجنوب محمية أمريكية منفصلة عن أمتها وبيئتها.
واليوم، فيتنام دولة صاعدة بخطى واثقة، ويكاد المرء يرى عبارة "صنع في فيتنام" تنافس عبارة "صنع في الصين" في بعض الصناعات.
ها أنا اليوم أشاهد صور انتصار فيتنام وأفرح من جديد، لكن هذا الفرح ممزوج بالحزن والأسى.
أقلب الصفحة، بحثًا عن صور من تاريخنا العربي الحديث تبعث في نفسي البهجة والأمل. صور من المراحل الأخيرة لحرب التحرير الجزائرية التي استمرت من عام 1954، وهو العام الذي انتصرت فيه فيتنام على فرنسا، وحتى عام 1962، عندما انسحبت فرنسا من الجزائر مرغمة في الخامس من يوليو.
قاتل الجزائريون وهم يرددون كلمات ابن باديس الخالدة: "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب". قدم الجزائريون مليون ونصف المليون شهيد، وانتزعوا وطنهم وحريتهم من قبضة فرنسا الغاشمة. كان نضالهم نابعًا من إيمانهم العميق بانتماء بلادهم لأمة الإسلام والعروبة. رفضوا كل عروض المصالحة التي تنتقص من هدفهم المنشود، وهو الاستقلال التام. وكانت الشعوب العربية قاطبة معهم، وقدم لهم جيرانهم في المغرب العربي الدعم المادي والمعنوي في كل المحافل.
تنتصر الشعوب العربية عندما تقاتل وهي موحدة، ومؤمنة بأن كل شعب منها جزء من الأمة، وأن معركته هي معركة الأمة بأسرها، وأن نصره هو نصر للأمة بأكملها. وكم كنت أفرح عندما كنا نقف في طابور الصباح المدرسي ونحن ننشد: "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر".
وكم أتمنى أن أرى اليوم عبارة "صنع في الجزائر" تنتشر في الأسواق كما تنتشر عبارة "صنع في فيتنام".
أقلب الصفحة، بحثًا عن صورة أخرى تبعث في نفسي السرور!
أطلقت حركة فتح الرصاصة الأولى في الأول من يناير عام 1964، أي بعد ثلاث سنوات من بداية التدخل الأمريكي في فيتنام الجنوبية. كنا نفرح وننشد للثورة الوليدة، ورغم أن فلسطين كلها أصبحت محتلة في يونيو حزيران عام 1967، ظل الأمل يحدونا في نصر قادم.
ومع أن الشعار كان "ثورة حتى النصر"، والأدبيات الأولى كانت تتحدث عن التحرير من البحر إلى النهر، لم تمض إلا سنوات قليلة بعد هزيمة حزيران، حتى بدأت الاتصالات السرية مع إسرائيل تمهيدًا لتسوية، وكانت تلك بداية تنازلات متلاحقة آلت بالقضية الفلسطينية إلى غياهب اتفاق أوسلو.
صحيح أن "هو تشي منه" كان يقبل بفكرة التفاوض، لكنه لم يلق السلاح أبدًا، ولم يقبل بأقل من كامل التراب الفيتنامي، وكان على يقين أن الانتخابات التي اتفق عليها في مؤتمر جنيف ستكون نتيجتها لصالح الوطن الموحد. "هو تشي منه" لم يفاوض سرًا، ولم يخفِ شيئًا عن الشعب الذي كان يسميه "العم هو". هذا هو الفرق!
ولتكتمل المأساة، كان لابد من تجريد القضية الفلسطينية من بعدها القومي العربي والإسلامي، فجاء مؤتمر قمة الرباط عام 1974 بمقولة "القرار الفلسطيني المستقل"، وأن المنظمة هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
كما قلنا، "هو تشي منه" لم يفاوض سرًا، ولم يحاول أن يعزل قضيته عن محيطها الإقليمي والحضاري، وكذلك فعل ثوار الجزائر. هذا فرق آخر!
كان قرار الرباط بمثابة الفرصة التي كان النظام الرسمي العربي ينتظرها للتنصل من أي التزام عملي تجاه فلسطين، وسادت مقولة "نقبل ما يقبل به الفلسطينيون ولو كان قفزة في الظلام".
توالت قرارات التنصل العربية على عجل، بدءًا بكامب ديفيد، إلى أن أصبح بعض العرب اليوم حلفاء لإسرائيل علنًا، وبعضهم يتمنى لو أن إسرائيل تقبل به.
حلفاء فيتنام لم يتنصلوا من مسؤولياتهم تجاهها، رغم التحديات الصعبة. هذا فرق آخر بين محيط فيتنام ومحيط فلسطين.
غزة تموت جوعًا وعطشًا وما من مجيب، وسوريا تستغيث ولا مغيث. آه يا وطني الكبير! حذار! سيؤكل الجميع كما أكلت فلسطين!
أقلب الصفحة، لعلّي أجد ما ينقذني من يأسي ويثبت قلبي.
سأل جلال الدين الرومي شمس الدين التبريزي يومًا: "والسبيل إلى الله؟" قال: "العيش في سبيل الله أشد ألمًا من الموت في سبيله".
غزة تعيش دائمًا في سبيل الله، هذا هو الفرق بين غزة والعالم أجمع!